Sunday, September 29, 2013

تفلسف

دائمًا ما كانت الفلسفة تُدعى أم العلوم. ويعود هذا أصلاً إلى معنى الكلمة، حيث الأصل اليونانيّ هو "فيلوصوفيا"، "فيلو" تعني الحبّ، ولكن ليس الحب الرومانسيّ، و"صوفيا" تعني الحكمة، والحكمة في ذاك العصر كانت تعني المهارة في عمل أو صنع الشيء. ودائمًا ما كان الفيلسوف ملمًا بكلِّ المجالات، فلا ننسى جملة أفلاطون على باب أول أكاديميّة في العالم: "لا يدخل علينا من لم يكن مهندسًا". كذلك الفلسفة تشمل المنطق والأخلاق والسياسة ومجالات أخرى عديدة. وإذا أردنا تحديد عمّا تبحث الفلسفة، نجدها تبحث أولاً وأخيرًا عن السعادة، الحقيقة، ملتمسةً إياهما عن طريق التساؤل الدائم، تساؤل عن العالم، والإنسان، والمطلق أو الله.
مما سبق يتراءى لنا أهميّة الفلسفة في تاريخ البشر للوصول إلى التقدم العلميّ، والحقيقة، والدين، والسياسة... إلخ. ولا يجب أن نفصل الفلسفة وتغيراتها عن الفن، فدائمًا ما كان الفن يعبر عن واقع معيش أو أفكارٍ جديدة. ويمكننا أن نقول إنّ الفنون هي الفلسفة متجسدة.
والآن إذا نظرنا إلى تاريخ الشعوب، فلا يمكن أن نجد أمّة متقدمة بلا فلسفة، من حضارتي الفراعنة وما بين النهرين، إلى الحضارة الإغريقيّة والهلينيّة، إلى روما والجمهوريّة، إلى عصور العرب الذهبيّة التي نجد فيها الفارابي وابن سينا وابن رشد وآخرين، إلى عصر النهضة والكاتدرائيّات الضخمة والتي تجسد تحوّل المركزيّة من المطلق إلى الإنسان، إلى موت الله مع نيتشه وبزوغ الإنسان السوبرمان، المتقدم، الطائر، الغواص، الذي يسهر، لا يغفو ولا ينام، الذي يسعى بلا كلل إلى الخلود...
ولنلقِ نظرةً الآن على مصر والعالم العربيّ، هل نرى تقدم في العلم؟ في الفن؟ في الموسيقى؟ في الرسم؟ في الكتابة؟ في الغناء؟ الإجابة هي لا... والسؤال هو لماذا؟
نعم، لأنّنا لا نتفلسف... لا نحدد المفاهيم. لا نفكر منطقيًّا. لا نخرج خارج ذواتنا وأفكارنا. لا نترك لخيالنا العنان. لا نقفز قفزة إيمان في سماء المجهول. بل ننقد ونوقف ونشتم كلَّ من يحاول إعمال عقله وكلَّ من يحاول الاستماع إلى قلبه وكلَّ من يطرح السؤال: لماذا؟ كيف لنا أن نتقدم علميًّا بدون فلسفة إذا كانت الفلسفة أم العلوم؟ كيف لفننا أن يصل إلى العالم بدون فلسفة إذا كان الفن تجسد للفلسفة؟ كيف يمكن أن نخترع بدون أن نسأل: ماذا، كيف، لماذا؟ كيف يجب أن نصل إلى الله بدون عقولنا وقلوبنا؟

قد أبدو متفلسفًا الآن... ولما لا؟!

Wednesday, September 25, 2013

رحمة...

يوم آخر من أيامي في القاهرة مرّ. يومٌ مثقل بأفكارٍ ومملوءٌ بأحلامٍ ومزيّنٌ بأوقاتٍ ممتعةٍ. كنت أفكر في اجتماع الصلاة اليوم، والقراءة التي تأملنا فيها "دعوا الأطفال يأتون إليَّ". كنت أحلم بالمقال الجديد الذي سأكتبه حول أهميّة الفلسفة وعلاقتها بتقدم الشعوب. كنت أسترجع لحظات ممتعة قضيتها اليوم مع كلِّ من أحب. وكعادتي في نهاية كلِّ يومٍ، قبل عودتي إلى المنزل، ذهبت إلى المقهى. فوجدت مجموعة كبيرة من الأصدقاء منشغلين كعادتهم، بين الحوار عن السفر، أو كرة القدم، وبين لعب الألعاب الإلكترونيّة. ولكنّي فضلت الجلوس خارج الدائرة، فانضم لي صديقين، وما أن مسكت هاتفي المحمول لأكتب نقاط رئيسيّة سأستخدمها في مقالي، حتى ظهرت رحمة. رحمة فتاة صغيرة في الخامسة من عمرها. رحمة بائعة مناديل بالوراثة. رحمة لا تحب المدرسة. رحمة تلبس لباسًا واحدًا صيفًا وإذا جاء الشتاء تُدخل يديها داخله. رحمة لا تعرف هل اسمها هو رحمة أم شيماء. رحمة لا تحلم. رحمة تريد أن تصبح بائعة مناديل حين تكبر. رحمة لا تعرف أين أبوها بعد خروجه من السجن، الذي دخله لأنّه قطع يد أحدهم. رحمة أرادت أن تلعب بهاتفي المحمول، لعبة هي ادخال كلمة السرّ لفتح الهاتف. رحمة رأت صورة المصلوب على شاشة الهاتف، فطلبت أن يكلمها. رحمة لها أخ، اسمه لالا. رحمة أرادت أن تشرب مشروب العناب البارد. رحمة خافت عندما رأت خالتها التي قالت لها: "عاملينك بني آدمة ومقعدينك على كرسي وطلبنلك عناب كمان".
طلب لها صديقي العناب. سألتها ماذا تريدين أن يقول المصلوب لكِ، وأنا أفكر في كلمة "أحبكِ". هل تعرف أصلاً لفظ الحبّ؟ هل كان سيقول إن لم تقبلوا ملكوت السماوات مثل هؤلاء لن تدخلوه؟ حاولت أن أرد على خالتها وأقول لها أن رحمة "بني آدمة". شكر صديقي الله على ما عنده. وسألت أنا نفسي، لماذا؟ لماذا هناك مثل رحمة الكثيرون؟ هل رحمة هي نتاج المجتمع؟ أم النظام؟ أم الثورة؟ أم التعليم؟ أم الدين؟ أم الجهل؟ أم هي نتاجنا نحن، أنا وأنت؟

مضت رحمة في طريقها. ورجعت أستمع لترتيبات السفر من مجموعة الأصدقاء. ثم ركبت سيارتي المكيّفة ووصلت إلى بيتي، وجلست إلى الكمبيوتر أكتب هذا المقال وأفكر في مقالي الآخر... وفي رحمة.