Tuesday, September 02, 2014

لِمَ الله؟

إنّ قضية المطلق من القضايا الشائكة طوال تاريخ الإنسان. بل ربما تكون أهم القضايا على الاطلاق. فإنّ الاعتراف بوجود قوة عليا أو إنكار وجودها يسيّر الإنسان وحياتَه. سأحاول عرض أكثر من وجهة نظر لإجابة سؤال واحد: لِمَ الله؟
وسأبدأ بوجهة نظر الملحد الذي ينكر وجود حقيقة مطلقة عليا أو ما يطلق عليه الله.

"لقد مات الله"، تلك كانت صرخة بداية القرن العشرين التي صرخها الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه. ولكن كون الله مات، فهذا لا يعني سوى إنه لم يكن موجودًا منذ البدء، وإنّ كلَّ هذه الأفكار هي أساطير وخرافات كما قال أبو الإلحاد الحديث في العالم لودفيك فيورباخ.

يرفض الملحد وجود فكرة الله لأكثر من سبب: أولاً، لا توجد أدلة علميّة عن وجودِ الله، واختلاف البراهين العلميّة عمّا تقره الأديان. ثانيًا، وجود الله يكبت حرية الإنسان.ثالثًا، الأديان وما تقدمه من صراعات وسيطرة وهيمنة على الشعوب، كما قال الفيلسوف كارل ماركس. رابعًا، الصور الرمزيّة والأسطوريّة التي تعرضها الأديان عن الخلق والخالق والعالم. خامسًا، أفكار عن إله في السماء يراقب ويعاقب ويحاسب. سادسًا، لا ضرورة فلسفيّة أو أخلاقيّة لله. سابعًا، مشكلة وجود الشرّ في العالم.

تلك هي في رأيي أكثر أسباب رفض فكرةِ الإله التي استنتجتها من دراستي ومن قراءتي لأفكار الكثير من الملحدين. كما إنّه هناك الكثير من الأسئلة التي يطرحها الملحدون ليحرجوا المؤمنين، ومنها مثلاً: ماذا كان الله يفعل قبل خلق العالم؟ من خلق الله؟ هل الله الكليّ القدرة يستطيع خلق حجر أكبر منه لا يقدر هو نفسه على حمله؟ وغيرها من الأسئلة التي بُحثت على مرّ تاريخ الفلسفة والأديان.

وقد يرى بعض المؤمنين، خاصةً الشرقيّين، إنّ هذه الأفكار هي أفكار مستجدة دخلت إلى مجتمعنا مع الانفتاح على التقنيّة الحديثة والشبكات المعلوماتيّة. غير أنّ الكتب المقدسة تخبرنا عن وجود مثل هذه الأفكار منذ بداية الفكر، "قال الجاهل في قلبه: لا يوجد إله" من كتاب المزامير، كما أنّ غاية الفلسفة، خاصةً في القرون الوسطى، كانت الردّ على مثل هذه الأفكار والأسئلة ومحاولة إثباتِ وجودِ الله حتى إنّ أشهر التعريفات عن الفلسفة كانت: "الفلسفة خادمة اللاهوت".

للإجابة عن سؤال لِمَ الله؟ أحاول إيجاد تعريف مجرد لله يتفق عليه المؤمنون والملحدون على حدٍ سواء دون النظر إلى دين أيًا كان، الله هو كائن أزليّ أبديّ غير محدود غير ماديّ مطلق خالق. هذا التعريف يتفق المؤمن والملحد عليه ويختلفان من حول وجوده واقعيًّا أم لا. فيوافق المؤمن على وجوده ويرفض الملحد وجوده واقعيًّا.  

أعرض فيما يلي ردودًا على بعض الأسباب التي تشكك الملحدين.
أولاً، آرخ العلماء عمر الكون بحوالي 13.7 مليار سنة، والسؤال هنا كيف وُجِدَ الكون؟ للزمان والمكان بداية في نقطة معيّنة، إذًا لابد من وجود علّة خارجيّة عن الزمان والمكان أظهرت الكون. إنّ نظريّة الإنفجار العظيم تجيب عن هذا السؤال وتضعنا في معضلة أخرى: كيف وُجِد هذا الكون من العدم ومن خلال العدم؟ وإن كان هذا الوجود صدفة، فكيف نفسر الضبط الكونيّ الذي يسمح بتوافق تركيبة الإنسان مع الكواكب مع قوة الجاذبيّة وغيرها من القوى لتسمح بوجود الحياة؟ يرى العالم ليونارد سوسكند إنّ احتمال مثل هذه الصدفة يقدر ب 10-123 أي 1/10123.
يعدُ الإلحاد العلميّ أوضح مظاهر الإلحاد المعاصر، إلاّ أنّه يجب أنّ نوضح مجالات بحث العلم، والفلسفة، والدين. إنّ العلم يبحث عن الكيف ولا يؤمن إلاّ بالبراهين التجريبيّة، مما يبعد كلَّ البعد عن مجال بحث الفلسفة حيث يطرح سؤال لماذا أو مجال بحث الدين حيث يُطرَح السؤال عن العلّة الأولى ويعتمد على الكتب والوحي كمصدر أولي. ثُمَ أنّ العلم يتطور ويتغيّر يوميًا، فلا يمكن التسليم بقوانين علميّة قد تُثبت خطئها فيما بعد كما سبق كثيرًا في تاريخ العلم.

ثانيًا، إنّ وجودَ الله ضرورة فلسفيّة للإجابة عن أسئلة العلّة الأولى والمصير والموت والوجود ذاته والحقيقة ذاتها. فباختصار عدم وجود حقيقة مطلقة ينفي وجود حقيقة. وعدم الوجود ينفي الوجود ذاته. كما أنّ السؤال عن العلّة الأولى هو أهم أسئلة الإنسان منذ بداية الإدراك وحتى اليوم، حيث بدأت الفلسفة بالسؤال: من أنا؟ أمّا الموت فهو عائقٌ كبير أمام طموح الإنسان إلى الخلود والكمال. ولا يستطيع الإلحاد الإجابة عن معضلة الموت.
ثالثًا، إنّ وجودَ الله ضرورة أخلاقيّة. لا أدعي عدم وجود أخلاق عند الملحد، ولكنّ الملحدَ لا يستطيع تفسير سبب الأخلاق. فمن يحدد الخطأ والصواب؟ ومن يحدد كون هذا العمل أخلاقيًّا أو غيرَ أخلاقيّ؟ فإذا كان هذا التحديد يتم باتفاق المجتمع، فكيف نفسر الأخلاق لدى الإنسان البدائيّ أو المجتمعات النائيّة أو الجريمة؟ وإذا كان الإنسان هو الذي يحدد الأخلاق وهو من يراقب نفسه، فكيف يكون المشرِع والمتهم والمجني عليه في ذات الوقت؟

لن أخوض في دراسة الأديان والصور الدينيّة، غير أنّ نظرة الكنيسة الكاثوليكيّة تنص على استخدام الوحي بعض الصور للدلالة على حقائق روحيّة أزليّة. أمّا عن الأسئلة التالية: من خلق الله؟ فهو يتنافى مع تعريف الله حيث الله بطبيعته هو الخالق الأول، فمن غير الجائز أن نسأل هذا السؤال. ماذا كان الله يفعل قبل الخلق؟ فهو أيضًا يناقض ذاته حيث أنّ الزمان هو خليقة وُجد مع المكان، فقبل الخلق لم يوجد قبل، وقد أجاب القديس أوغسطينس عن هذا السؤال سابقًا. أمّا عن السؤال عن قدرة الله على خلق حجر يكبره ولا يقدر حمله؟ فهو أيضًا سؤال يتعارض مع طبيعة الله حيث يتم فيه مقارنة الماديّ بغير الماديّ. تبقى مسألتي الحريّة والشرّ من أهم المسائل المطروحة في السؤال عن وجودِ الله، والإجابة عنهم، في المفهوم المسيحيّ الذي ينص على "الله محبة" أي أنّ طبيعة الله الأولى وجوهره هي المحبة، في كلمة واحدة "حرية الإرادة". حريّة الإرادة هي الإجابة عن مسألة الشرّ، فإن خلق الله عالماً لا يوجد به شرٌّ، يحد من طبيعته المحبة. كما أنّ الحريّة واجبةٌ على الله، إنْ كان محبة!

إن "حرية الإرادة" هي كلمة السرّ في الإجابة عن سؤال "لِمَ الله؟"، فالله إن كان هو الكمال، لا يحتاج أن يجبرَ أحدًا على الاقتناع به، لذلك يتركه يختاره أو يرفضه.

في النهاية، أوضح أنّ ما ذكرته فيما سبق يُعد اختصارًا شديدًا لحجج وبراهين ومناقشات وحوارات لم ولن تنتهي، طالما عاش الإنسان. وأذكر أنّه كتب على قبر نيتشه، وهو الفيلسوف الذي قتل الله، "لقد مات نيتشه!". كما أذكر جملة قالها البطريرك مكسيموس الرابع: "الإله الذي لا يؤمن به الملحدون، لا أؤمن به أنا أيضًا"، وفي هذه الجملة إجابة عن أحد أهم أسباب الإلحاد المعاصر، وهو الأفكار المغلوطة التي نتوارثها عن الإله الجالس على عرشه يراقب الكون ويحاسب ويعاقب. هذا الإله الذي يرفضه من يؤمن بالله، من يؤمن بأنّ الله محبة ولا شيء غير المحبة.

وللحديث بقية!

سامر حنّا
القاهرة في 2 سبتمبر 2014

No comments:

Post a Comment